الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
الْأَسْبَابُ الَّتِي تَأْتِي الصِّفَةُ لِأَجْلِهَا (فِي الْقُرْآنِ) وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ إِنْ وَقَعَتْ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ، وَمُوَضِّحَةً لِلْمَعْرِفَةِ، وَتَأْتِي لِأَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: لِمُجَرَّدِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَمِنْهُ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الْفَاتِحَةِ: 1) فَلَيْسَ ذِكْرُ الْوَصْفِ هُنَا لِلتَّمْيِيزِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ- تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ- حَتَّى يُوَضَّحَ بِالصِّفَةِ. وَأَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ هَذَا الْمَعْنَى، فَذَكَرَ أَسَامِيَ بَعْضِ مَمْدُوحِهِ ثُمَّ قَالَ: أَسَامِيًا لَمْ تَزِدْهُ مَعْرِفَةً *** وَإِنَّمَا لَذَّةً ذَكَرْنَاهَا فَقَوْلُهُ: " لَمْ تَزِدْهُ " بَيَانُ أَنَّهَا لِلْإِطْنَابِ وَالثَّنَاءِ لَا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّبْيِينِ. وَقِيلَ: إِنَّ الصِّفَاتِ الْجَارِيَةَ عَلَى الْقَدِيمِ- سُبْحَانَهُ- الْمُرَادُ بِهَا التَّعْرِيفُ، فَإِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَاصِلَةٌ لَهُ، لَا لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلثَّنَاءِ لَكَانَ الِاخْتِيَارُ قَطْعَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} (الْمَائِدَةِ: 44) فَهَذَا الْوَصْفُ لِلْمَدْحِ لَيْسَ غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ نَبِيُّونَ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، كَذَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: " وَأُرِيدَ بِهَا التَّعْرِيضُ بِالْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّ الْيَهُودَ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا ". وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ لِلتَّمْيِيزِ، وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ وَصْفَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَدْحِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَمْدُوحِ وَغَيْرِهِ بِالْأَوْصَافِ الْخَاصَّةِ، وَالْإِسْلَامُ وَصْفٌ عَامٌّ، فَوَصْفُهُمْ بِالْإِسْلَامِ: إِمَّا بِاعْتِبَارِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ غَايَتَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ الرَّاجِعَيْنِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ، الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَوْصَافِ الْعِبَادِ، فَكَذَلِكَ يُوصَفُونَ بِهَا فِي أَشْرَفِ حَالَاتِهِمْ وَأَكْمَلِ أَوْقَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (الْبَقَرَةِ: 128) أَيْ: مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ لِقَضَائِكَ، وَكَذَا قَوْلُ يُوسُفَ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} (يُوسُفَ: 101) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} (الْمَائِدَةِ: 44) تَنْوِيهٌ بِقَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ، فَإِنَّ الصِّفَةَ تُعَظَّمُ بِعِظَمِ مَوْصُوفِهَا، كَمَا وُصِفَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} (غَافِرٍ: 7) تَنْوِيهًا بِقَدْرِ الْإِيمَانِ، وَحَضًّا لِلْبَشَرِ عَلَى التَّحَلِّي بِهِ؛ لِيَكُونُوا كَالْمُقَرَّبِينَ فِي وَصْفِ الْإِيمَانِ، حَتَّى قِيلَ: أَوْصَافُ الْأَشْرَافِ أَشْرَفُ الْأَوْصَافِ. الثَّانِي: لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} (الْأَعْرَافِ: 158) وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِوَاضِحٍ، فَإِنَّ " رَسُولَ اللَّهِ " كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي نَبِيِّنَا- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ، وَتَعْرِيفُهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْإِضَافَةِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَبِيِّنَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ الذِّهْنُ يَتَبَادَرُ إِلَّا إِلَيْهِ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ وَضْعِهِ؛ بَلْ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الْأَعْرَافِ: 158) وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (رُسُلُ اللَّهِ) (الْأَنْعَامِ: 124) وَفِي حَقِّ عِيسَى:} (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)} (آلِ عِمْرَانَ: 49) وَفِي حَقِّ مُوسَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} (الْمُزَّمِّلِ). ثُمَّ إِنَّ الصِّفَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ أَوْ دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ، وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فَوْقَهُ فَلَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ تَابِعَةٌ، وَالتَّابِعُ دُونَ الْمَتْبُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُزَالَ إِبْهَامُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَبْهَمُ مِنْهُ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ التَّعْرِيفَ لَمْ يَقَعْ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. الثَّالِثُ: لِتَعْيِينِهِ لِلْجِنْسِيَّةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (الْأَنْعَامِ: 38) لِأَنَّ الْمَعْنَى بِدَابَّةٍ وَالَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ الْجِنْسِيَّةُ لَا الْإِفْرَادُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فَجَمْعُ أُمَمٍ مُحَقِّقٌ إِرَادَةَ الْجِنْسِ مِنَ الْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْجِنْسِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ كَوْنُ الدَّابَّةِ غَيْرَ مُنْفَكَّةٍ عَنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ، وَكَوْنُ الطَّائِرِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ كَوْنُهُ طَائِرًا بِجَنَاحَيْهِ، لِيَنْتَفِيَ تَوَهُّمُ الْفَرْدِيَّةِ، هَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي " الْمِفْتَاحِ ". وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصْفَ لِيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ دَابَّةً مَخْصُوصَةً، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِدُونِ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ لَا سِيَّمَا مَعَ " مِنْ " الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ قَطْعِيَّةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ (فِي الْأَرْضِ) وَ (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) يُفِيدُ زِيَادَةَ التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا مِنْ طَائِرٍ مِنْ جَمِيعِ مَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ". وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ لَمَّا كَانَ يُوصَفُ بِهِ مَنْ يَعْقِلُ كَالْجَانِّ وَالْمَلَائِكَةِ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ: بِجَنَاحَيْهِ لَتُوُهِّمَ الِاقْتِصَارُ عَلَى جِنْسِهَا مِمَّنْ يَعْقِلُ، فَقِيلَ: بِجَنَاحَيْهِ لِيُفِيدَ إِرَادَةَ هَذَا الطَّيْرِ الْمُعْتَقَدِ فِيهِ عَدَمَ الْمَعْقُولِيَّةِ بِعَيْنِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي الْخِفَّةِ، وَشِدَّةِ الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ، كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ: طَارُوا إِلَيْهِ زُرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا *** فَقَوْلُهُ: (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) رَافِعٌ لِاحْتِمَالِ هَذَا الْمَعْنَى. وَقِيلَ: لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الطَّائِرِ فَقَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ} لَكَانَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ يُوهِمُ: " وَلَا طَائِرٍ فِي الْأَرْضِ "؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ إِذَا قُيِّدَ بِظَرْفٍ أَوْ حَالٍ يُقَيَّدُ بِهِ الْمَعْطُوفُ، وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِصَاصَهُ بِطَيْرِ الْأَرْضِ الَّذِي لَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ كَالدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ وَنَحْوِهَا، فَلَمَّا قَالَ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} زَالَ هَذَا الْوَهْمُ، وَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَائِرٍ مُقَيَّدٍ، إِنَّمَا تَقَيَّدَتْ بِهِ الدَّابَّةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} (الْبَقَرَةِ: 11) مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْفَسَادَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ، قِيلَ: فِي ذِكْرِهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَحَلَّ الَّذِي فِيهِ شَأْنُكُمْ وَتَصَرُّفُكُمْ، وَمِنْهُ مَادَّةُ حَيَاتِكُمْ- وَهِيَ سُتْرَةُ أَمْوَالِكُمْ- جَدِيرٌ أَلَّا يُفْسَدَ فِيهِ، إِذْ مَحَلُّ الْإِصْلَاحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (التَّوْبَةِ: 74) لِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ النَّصِيرِ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِبَعْضِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} (التَّوْبَةِ: 30) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (النِّسَاءِ: 10) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الْحَجِّ: 46) وَنَحْوَهَا مِنَ الْمُقَيَّدِ- إِذِ الْقَوْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ، وَالْأَكْلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَطْنِ- فَفَوَائِدُهُ مُخْتَلِفَةٌ. فَقِيلَ: بِأَفْوَاهِهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اللِّسَانِ، أَيْ: لَا يُعَضِّدُهُ حُجَّةٌ وَلَا بُرْهَانٌ، وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ فَارِغٌ مِنْ مَعْنًى تَحْتَهُ، كَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ أَجْرَاسٌ وَنَغَمٌ، لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى مَعْنًى قَوْلٌ بِالْفَمِ وَمُؤَثِّرٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَا لَا مَعْنَى لَهُ مَقُولٌ بِالْفَمِ لَا غَيْرَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْمَذْهَبُ، أَيْ: هُوَ مَذْهَبُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ لَا بِقُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ تُوجِبُ اعْتِقَادَهُ بِالْقَلْبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ رَافِعٌ لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ حَدِيثِ النَّفْسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} (الْمُجَادَلَةِ: 8). وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقَوْلَ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ، فَأَفَادَ بِأَفْوَاهِهِمُ التَّنْصِيصَ عَلَى أَنَّهُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، وَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لَمْ يُسْتَفَدْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيَشْهَدُ لَهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ} (الْمُنَافِقُونَ: 1) الْآيَةَ، فَلَمْ يُكَذِّبْ أَلْسِنَتَهُمْ؛ بَلْ كَذَّبَ مَا انْطَوَى عَنْ ضَمَائِرِهِمْ مِنْ خِلَافِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (النِّسَاءِ: 10) لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَكَلَ فِي بَطْنِهِ، إِذَا أَمْعَنَ، وَفِي بَعْضِ بَطْنِهِ، إِذَا اقْتَصَرَ، قَالَ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا *** فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَأْكُلُونَ مَا يُجَرُّ- إِذَا امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ- نَارًا، وَإِنَّمَا قَالَ: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الْحَجِّ: 46) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّعَقُّلِ، وَسَمَاعِ أَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُمْ قَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الْحَجِّ: 46). قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَلْ شَيْءٌ أَبْلَغُ فِي الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟! لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى آثَارِ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ؛ فَيَرَوْا بُيُوتًا خَاوِيَةً قَدْ سَقَطَتْ عَلَى عُرُوشِهَا، وَبِئْرًا يَشْرَبُ أَهْلُهَا فِيهَا قَدْ عُطِّلَتْ، وَقَصْرًا بَنَاهُ مَلِكُهُ بِالشِّيدِ خَلَا مِنَ السَّكَنِ وَتَدَاعَى بِالْخَرَابِ؛ فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ، وَيَخَافُوا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ؟ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ أَبْصَارَهُمُ الظَّاهِرَةَ لَمْ تَعْمَ عَنِ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ وَإِنْ عَمِيَتْ قُلُوبُهُمُ الَّتِي فِي صُدُورِهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ قَدْ يُعْنَى بِهَا الْقَلْبُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} (الْكَهْفِ: 101) جَازَ أَنْ يُعْنَى بِالْقَلْبِ الْعَيْنُ، فَقَيَّدَ الْقُلُوبَ بِذِكْرِ مَحَلِّهَا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ غَيْرِهَا. وَقِيلَ: ذِكْرُ مَحَلِّ الْعَمَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِاسْمِ الْعَمَى مِنْ عَمَى الْبَصَرِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ أَيْ: هَذَا أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ شَدِيدًا مِنْهُ، فَعَمَى الْقَلْبِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ لَا عَمَى الْبَصَرِ، فَأَعْمَى الْقَلْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَعْمَى مِنْ أَعْمَى الْعَيْنِ، فَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الْحَجِّ: 46) عَلَى أَنَّ الْعَمَى الْبَاطِنَ فِي الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّدْرُ، لَا الْعَمَى الظَّاهِرُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي مَحَلُّهَا الْوَجْهُ.
فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِالصِّفَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ الْأُولَى: [الصِّفَةُ الْعَامَّةُ لَا تَأْتِي بَعْدَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ] اعْلَمْ أَنَّ الصِّفَةَ الْعَامَّةَ لَا تَأْتِي بَعْدَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ؛ لَا تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَعَمُّ مِنَ الْفَصِيحِ؛ إِذْ كَلُّ فَصِيحٍ مُتَكَلِّمٌ، وَلَا عَكْسُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا أُشْكِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (مَرْيَمَ: 54) إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا صِفَةٌ لِـ(رَسُولَ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ؛ إِذْ كُلُّ رَسُولٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ نَبِيٌّ، وَلَا عَكْسُ. وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي رَسُولًا وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي " رَسُولَ " مِنْ مَعْنَى " يُرْسِلُ " أَيْ: كَانَ إِسْمَاعِيلُ مُرْسَلًا فِي حَالِ نُبُوَّتِهِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} (الْبَقَرَةِ: 91).
الثَّانِيَةُ: [تَأْتِي الصِّفَةُ لَازِمَةً لَا لِلتَّقْيِيدِ] تَأْتِي الصِّفَةُ لَازِمَةً لَا لِلتَّقْيِيدِ، (فِي الْقُرْآنِ) فَلَا مَفْهُومَ لَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 117) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} (الْأَعْرَافِ: 33) وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ نَحْوَ قَوْلِهِ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (الْأَنْعَامِ: 38) جِيءَ بِهَا لِلتَّوْكِيدِ؛ لَا أَنْ يَكُونَ فِي الْآلِهَةِ مَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ كَقَوْلِكَ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَى زَيْدٍ- لَا أَحَقَّ بِالْإِحْسَانِ مِنْهُ- فَاللَّهُ مُثِيبُهُ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا لِبَيَانِ خَاصَّةِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ أَلَّا تَقُومَ عَلَى صِحَّتِهِ حُجَّةٌ، لَا بَيَانُ أَنَّهُ نَوْعَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (الْأَنْعَامِ: 38) هُوَ بَيَانُ خَاصَّةِ الطَّيَرَانِ لَا أَنَّهُ نَوْعَانِ. وَقَوْلِهِ: {سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الْأَنْعَامِ: 140) وَالسَّفَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ، وَقِيلَ: بِغَيْرِ عِلْمٍ بِمِقْدَارِ قُبْحِهِ. وَقَوْلِهِ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الْبَقَرَةِ: 61) وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُمْ إِلَّا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ " بِغَيْرِ الْحَقِّ " فِي اعْتِقَادِهِمْ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِصِفَةِ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ أَبْلَغُ فِي ذَمِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِلْفِعْلِ، كَمَا فِي عَكْسِهِ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} (الْأَنْبِيَاءِ: 112) لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي التَّصْرِيحِ بِالصِّفَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِأَنَّ قَتْلَ النَّبِيِّ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ؛ كَقَتْلِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلَدَهُ، وَلَوْ وُجِدَ لَكَانَ بِحَقٍّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " إِنَّمَا قَيَّدَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَإِلَّا اسْتَوْجَبُوا الْقَتْلَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ شُبْهَةً، وَإِنَّمَا نَصَحُوهُمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَلَوْ أَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا وَجْهًا يُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْقَتْلَ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (الْبَقَرَةِ: 197) مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ أَيْضًا، لَكِنْ خُصِّصَ بِالذِّكْرِ هُنَا لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ وَخَطَرِهِ فِي الْحَجِّ، وَأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ فِي الْحَجِّ، كَيْفَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 196) وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (الْبَقَرَةِ: 187) لِأَنَّ الرِّيَاءَ يَقَعُ فِي الْحَجِّ كَثِيرًا، فَاعْتَنَى فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْإِخْلَاصِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (الْقَصَصِ: 50) وَاتِّبَاعُ الْهَوَى لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ. وَقِيلَ: بَلْ يَكُونُ الْهَوَى فِي الْحَقِّ؛ فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الْمَائِدَةِ: 50) فَإِنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى حَسُنٌ لِمَنْ يُوقِنُ وَلِمَنْ لَا يُوقِنُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ ظُهُورَ حُسْنِهِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ وَصَفَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوقِنَ هُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْجَاهِلِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 79) وَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ، فَفَائِدَتُهُ مُبَاشَرَتُهُمْ ذَلِكَ التَّحْرِيفَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَتَبَ فُلَانٌ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ بَلْ أَمَرَ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ عَلَيٍّ: " كَتَبَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ.
الثَّالِثَةُ: [قَدْ تَأْتِي الصِّفَةُ بِلَفْظٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ]
قَدْ تَأْتِي الصِّفَةُ بِلَفْظٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} (الْبَقَرَةِ: 69) قِيلَ: الْمُرَادُ: " سَوْدَاءٌ نَاصِعٌ "، وَقِيلَ: بَلْ عَلَى بَابِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} (الْمُرْسَلَاتِ: 33) قِيلَ: كَأَنَّهُ أَيْنُقٌ سُودٌ، وَسُمِّيَ الْأَسْوَدُ مِنَ الْإِبِلِ أَصْفَرُ لِأَنَّهُ سَوَادٌ تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ.
الرَّابِعَةُ: [قَدْ تَجِيءُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْمِيمِ] قَدْ تَجِيءُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْمِيمِ، الصِّفَةُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} (الْأَنْعَامِ: 141) مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّمَا يُؤْكَلُ إِذَا أَثْمَرَ، فَقِيلَ: فَائِدَتُهُ نَفْيُ تَوَهُّمِ تَوَقُّفِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالنُّضْجِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ أَوَّلِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الْفَلَقِ: 5) وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الْأَنْعَامِ: 152) فَإِنَّ غَيْرَ مَالِ الْيَتِيمِ كَذَلِكَ، لَكِنْ إِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الطَّمَعَ فِيهِ أَكْثَرُ؛ لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ النَّاصِرِ لَهُ، بِخِلَافِ مَالِ الْبَالِغِ، أَوْ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِمَجْمُوعِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُمَا: النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِ بِغَيْرِ الْأَحْسَنِ، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الْأَنْعَامِ: 152) مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ كَذَلِكَ، وَقُصِدَ بِهِ لِيُعْلَمَ وُجُوبُ الْعَدْلِ فِي الْفِعْلِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، كَقَوْلِهِ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (الْإِسْرَاءِ: 23).
الْخَامِسَةُ: [قَدْ يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْبَابِ السَّابِقَةِ] قَدْ يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْبَابِ تَعَدُّدُ الِاحْتِمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي الْقُرْآنِ السَّابِقَةِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النَّحْلِ: 15) فَإِنَّ ابْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ جَعَلُوهُ نَعْتًا قُصِدَ بِهِ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ (إِلَهَيْنِ) مُثَنَّى وَالِـ (اثْنَيْنِ) لِلتَّثْنِيَةِ، فَمَا فَائِدَةُ الصِّفَةِ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ: " إِنَّ فَائِدَتَهَا تَوْكِيدُ نَهْيِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْإِلَهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ كَوْنِهِمَا اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَلَوْ وُصِفَ إِلَهَيْنِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ: " لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ عَاجِزَيْنِ " لَأَشْعَرَ بِأَنَّ الْقَادِرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَا، فَمَعْنَى التَّثْنِيَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ، فَسُبْحَانَ مَنْ دَقَّتْ حِكْمَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} (النِّسَاءِ: 176). الثَّانِي: أَنَّ الْوَحْدَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا النَّوْعِيَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّمَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْعَدَدُ، نَحْوَ: " إِنَّمَا زَيْدٌ رَجُلٌ وَاحِدٌ "، فَالتَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِهَا، فَلَوْ قِيلَ: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} فَقَطْ لَصَحَّ فِي مَوْضُوعِهِ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ اتِّخَاذِ جِنْسَيْنِ آلِهَةً، وَجَازَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَعْدَادُ آلِهَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَاحِدٌ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ لَا تَتَضَادُّ مَطْلُوبَاتُهُ، فَيَصِحُّ، فَلَمَّا قَالَ: اثْنَيْنِ بَيَّنَ فِيهِ قُبْحَ التَّعْدِيدِ لِلْإِلَهِ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَدَدِيَّةِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: وَكَذَا الْقَوْلُ فِي {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فَيَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا يُؤَكِّدُ فِيهِ الْعَدَدَ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَلَمْ تَصِفْهُ بِوَاحِدٍ لَمْ يَحْسُنْ، وَقِيلَ لَكَ: إِنَّكَ نَفَيْتَ الْإِلَهِيَّةَ لَا الْوَحْدَانِيَّةَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ وَاقِعًا عَلَى التَّعَدُّدِ وَالِاثْنَيْنِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِ أَتَى بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَكَ: " لَا تَتَّخِذْ ثَوْبَيْنِ " يَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا قُلْتَ: " ثَوْبَيْنِ اثْنَيْنِ "، عَلِمَ الْمُخَاطَبُ أَنَّكَ نَهَيْتَهُ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالِاثْنَيْنِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِ، وَأَنَّكَ إِنَّمَا أَرَدْتَ مِنْهُ الِاقْتِصَارَ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إِلَى نَفْسِ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَدِ، فَأَتَى بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ الدَّالِّ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " لَا تُعَدِّدِ الْآلِهَةَ، وَلَا تَتَّخِذْ عَدَدًا تَعْبُدُهُ، إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ". الرَّابِعُ: أَنَّ " اتَّخَذَ " هِيَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَكُونُ " اثْنَيْنِ " مَفْعُولَهَا الْأَوَّلُ، وَ " إِلَهَيْنِ " مَفْعُولَهَا الثَّانِي؛ وَأَصْلُ الْكَلَامِ: " لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ "، ثُمَّ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ " إِلَهَيْنِ " أَخَصُّ مِنَ " اثْنَيْنِ "، وَاتِّخَاذُ اثْنَيْنِ يَقَعُ عَلَى مَا يَجُوزُ وَعَلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ فَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَقَدَّمَ " إِلَهَيْنِ " عَلَى " اثْنَيْنِ " إِذِ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ اتِّخَاذُهُمَا إِلَهَيْنِ؛ فَالنَّهْيُ وَقَعَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الْآلِهَةُ الْمُتَّخَذَةُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ " الِاثْنَيْنِ " وَ " الْإِلَهَيْنِ " إِذْ هُمَا مَفْعُولَا الِاتِّخَاذِ. قَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ ": " وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْجَيِّدُ؛ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَأَمَّا إِذَا جَعَلَ " إِلَهَيْنِ " مَفْعُولَ تَتَّخِذُوا وَ " اثْنَيْنِ " صِفَةً، فَإِنَّهُ أَيْضًا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْوَصْفِ إِلَى التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ اثْنَيْنِ مَا اسْتُفِيدَ مِنْ إِلَهَيْنِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ وَالْجِنْسِ، وَالثَّانِي عَلَى مُجَرَّدِ الِاثْنَيْنِيَّةِ. قَالَ: وَهَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (هُودٍ: 40) فِي دُخُولِ (اثْنَيْنِ) فِي حَدِّ الْوَصْفِ، إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِتَنْوِينِ " كُلٍّ "، فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ التَّنْوِينَ عِوَضًا عَنْهُ، وَ (زَوْجَيْنِ) مَفْعُولَ (احْمِلْ) (هُوْدٍ: 40) أَوْ (فَاسْلُكْ)، وَ (اثْنَيْنِ) (الْمُؤْمِنُونَ: 27) نَعْتٌ، وَ (مِنْ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْأَمْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ؛ لِكَوْنِهِ حَالًا مِنْ نَكِرَةٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ: احْمِلْ أَوِ اسْلُكْ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِإِضَافَةِ " كُلٍّ " احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَ (اثْنَيْنِ) الْمَفْعُولَ، وَالْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: جَعْلُ (مِنْ) زَائِدَةً عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، وَ (كُلٍّ) هِيَ الْمَفْعُولُ وَ (اثْنَيْنِ) صِفَةٌ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ بَدَلٌ، وَيُنْوَى بِالْأَوَّلِ الطَّرْحُ، وَاخْتَارَهُ النِّيلِيُّ فِي " شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ "، قَالَ: لِمَا فِيهِ مِنْ حَسْمِ مَادَّةِ التَّأْوِيلِ. وَنَظِيرُ السُّؤَالِ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} (النِّسَاءِ: 176) فَإِنَّ مَرْوَانَ بْنَ سَعِيدٍ الْمُهَلَّبِيَّ سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَخْفَشَ فَقَالَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ؟ أَرَادَ مَرْوَانُ أَنَّ لَفْظَ كَانَتَا تُفِيدُ التَّثْنِيَةَ، فَمَا فَائِدَةُ تَفْسِيرِهِ الضَّمِيرَ الْمُسَمَّى بِاثْنَتَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ " فَإِنْ كَانَتَا ثَلَاثًا " وَلَا فَوْقَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُفَصِّلِ الْخَبَرُ الِاسْمَ فِي شَئٍ؟ فَأَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّهُ أَفَادَ الْعَدَدَ الْمَحْضَ مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَةِ، أَيْ: قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا صَغِيرَتَيْنِ فَلَهُمَا كَذَا، أَوْ كَبِيرَتَيْنِ فَلَهُمَا كَذَا، أَوْ صَالِحَتَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَلَمَّا قَالَ اثْنَتَيْنِ أَفْهَمَ أَنَّ فَرْضَ الثُّلُثَيْنِ لِلْأُخْتَيْنِ تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا اثْنَتَيْنِ فَقَطْ، عَلَى أَيِّ صِفَةٍ، وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوَرِّثُونَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا نُوَرِّثُ إِلَّا مَنْ يَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَنْكِئُ الْعَدُوَّ. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِتَوْرِيثِ الْبَنَاتِ أَعْلَمَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي أَحَدِ الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ مَنُوطٌ بِوُجُودِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْعَدَدِ. قَالَ الْحَرِيرِيُّ: وَلَقَدْ أَبْدَعَ مَرْوَانُ فِي اسْتِنْبَاطِهِ وَسُؤَالِهِ، وَأَحْسَنَ أَبُو الْحَسَنِ فِي كَشْفِ إِشْكَالِهِ. وَلَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " أَمَالِيهِ " هَذَا الْجَوَابَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ- وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْأَخْفَشِ- ثُمَّ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُثَنَّى، مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَاتِ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ خَبَرًا دَالًّا عَلَى التَّجْرِيدِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا يُعْنَى بِاللَّفْظِ ذَاتُهُ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: " جَاءَنِي رَجُلٌ " لَا يَفْهَمُ إِلَّا ذَاتٌ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَجْرِيدٍ عَنْ مَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ عَقْلٍ، فَكَذَلِكَ " اثْنَتَيْنِ " لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى مُسَمَّى " اثْنَتَيْنِ " فَقَطْ، فَلَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ ثُمَّ لَوْ سَلِمَ صِحَّةُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا؛ إِذْ لَوْ صَحَّ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: " فَإِنْ كَانَتَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ حَصَلَ " وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ تَثْنِيَةَ الضَّمِيرِ فِي كَانَتَا عَائِدٌ عَلَى الْكَلَالَةِ، وَالْكَلَالَةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ وَجَمَاعَةً، فَإِذَا أَخْبَرَ بِاثْنَتَيْنِ حَصَلَتْ بِهِ فَائِدَةٌ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي " كَانَتَا " الْعَائِدُ عَلَى الْكَلَالَةِ هُوَ فِي مَعْنَى اثْنَيْنِ صَحَّ أَنَّ تُثَنِّيَهُ؛ لِأَنَّ تَثْنِيَتَهُ فَرْعٌ عَنِ الْإِخْبَارِ بِاثْنَيْنِ؛ إِذْ لَوْلَاهُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ لَمْ تُسْتَفَدِ التَّثْنِيَةُ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ آخَرُ؛ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُمَاثِلَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النِّسَاءِ: 11)، ثُمَّ قَالَ: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً) (النِّسَاءِ: 11) (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً) (النِّسَاءِ: 11) وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْكَلَالَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ الضَّمِيرُ لِغَيْرِ مَذْكُورٍ. وَالْجَوَابُ بِشَيْءٍ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ؛ وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَعُودُ عَلَى الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ إِلَيْهِ وَنُسِبَ إِلَى صَاحِبِهِ؛ فَإِذَا قُلْتَ: إِذَا جَاءَكَ رِجَالٌ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَافْعَلْ بِهِ كَذَا، وَإِنْ كَانَ اثْنَيْنِ فَكَذَا؛ صَحَّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْجَائِي، وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: وَإِنْ كَانَ الْجَائِي مِنَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِكَ: " إِذَا جَاءَكَ " وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ الْوَارِثِينَ الْأَوْلَادِ؛ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: " فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِنَ الْأَوْلَادِ "، لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ، فَقَدْ دَخَلَتْ " الِاثْنَانِ " بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى. وَيَجُوزُ أَنَّ تَبْقَى الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَخْتَصُّ هَذَا الْجَوَابُ بِهَذِهِ. قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ أُخَرُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى؛ أَيْ: " فَإِنْ كَانَ مَنْ تُرِكَ اثْنَتَيْنِ "، وَهَذَا مُقَيَّدٌ فَأَضْمَرَهُ عَلَى مَا بَعْدُ، وَ " مَنْ " يَسُوغُ مَعَهَا ذِكْرُ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ؛ فَإِذَا وَقَعَ الضَّمِيرُ مَوْقِعَ " مَنْ " جَرَى مَجْرَاهَا فِي جَوَازِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالِاثْنَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى أُصُولِهَا الْمَرْفُوضَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (الْمُجَادَلَةِ: 19) وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْأَعْدَادِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْمَعْدُودِ؛ كَثَلَاثَةِ رِجَالٍ، وَأَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: اثْنَيْنِ رَجُلٍ، وَوَاحِدِ رَجُلٍ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَفَضُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّكَ تَجِدُ لَفْظَةً تَجْمَعُ الْعَدَدَ وَالْمَعْدُودَ، فَتُغْنِيكَ عَنْ إِضَافَةِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُكَ: رَجُلَانِ وَرَجُلٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّكَ تَجِدُ مَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: ثَلَاثَةُ، لَمْ يُعْلَمِ الْمَعْدُودُ مَا هُوَ؟ وَإِذَا قُلْتَ: رِجَالٌ، لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ مَا هُوَ؟ فَأَنْتَ مُضْطَرٌّ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ وَالْمَعْدُودِ؛ فَلِذَلِكَ قِيلَ: كَانَ الرِّجَالُ ثَلَاثَةً، وَلَمْ يَقُلْ: كَانَ الرَّجُلَانِ اثْنَيْنِ، وَلَا الرَّجُلَانِ كَانَا اثْنَيْنِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَانَ اسْتِعْمَالًا لِلشَّيْءِ الْمَرْفُوضِ؛ كَقَوْلِهِ: ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْظَلِ *** (فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الشِّعْرِ؟ (قِيلَ): إِنَّا وَجَدْنَا فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ جَاءَتْ عَلَى الْأُصُولِ الْمَرْفُوضَةِ كَـ " اسْتَحْوَذَ " وَنَظَائِرِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ " فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا "، فَعَبَّرَ بِالْأَدْنَى عَنْهُ وَعَمَّا فَوْقَهُ، قَالَهُ ابْنُ الضَّائِعِ النَّحْوِيُّ. قُلْتُ: وَنَظَائِرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} (الْبَقَرَةِ: 282) فَإِنَّ الرُّجُولِيَّةَ الْمُثَنَّاةَ فُهِمَتْ مِنَ الضَّمِيرِ؛ بِدَلِيلِ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 282) فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: " رَجُلَيْنِ " حَالٌ لَا خَبَرٌ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: " فَإِنْ لَمْ يُوجَدَا حَالَ كَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ " وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} (آلِ عِمْرَانَ: 36) فَإِنَّ الْأُنُوثَةَ فُهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ: (وَضَعْتُهَا). وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمُ السُّؤَالَ فِي الْأَوَّلِ؛ فَقَالَ: الضَّمِيرُ فِي (يَكُونَا) لِلرَّجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ (الشَّهِيدَيْنِ) قُيِّدَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الرِّجَالِ؛ فَكَأَنَّ الْكَلَامَ: " فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلَانِ رَجُلَيْنِ " وَهَذَا مُحَالٌ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ الْأَخْفَشُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: إِنَّ الْخَبَرَ هُنَا أَفَادَ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الصِّفَةِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ إِذْ وَضَعَ فِيهِ " الرَّجُلَيْنِ " مَوْضِعَ " الِاثْنَيْنِ " وَهُوَ تَجَوُّزٌ بَعِيدٌ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ الْمُجَرَّدُ مِنْهُمَا، الرُّجُولِيَّةُ أَوِ الْأُنُوثِيَّةُ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِصِفَةٍ مَا دَالًّا عَلَى نَفْيِهَا؟! عَلَى أَنَّ فِي جَوَابِ الْفَارِسِيِّ هُنَاكَ نَظَرًا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ جَعَلَ نَفْسَ السُّؤَالِ جَوَابًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ ذُكِرَ الْعَدَدُ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلضَّمِيرِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ، فَلَمْ يَزِدِ الْأَلْفَاظَ تَجَرُّدًا. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ رَجُلَيْنِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ الْمُبَيِّنَةِ، وَ " كَانَ " تَامَّةٌ فَهُوَ أَظْرَفُ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ وَجْهِ النَّظْمِ، وَأُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ، وَنَفْيِ مَا لَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْحَشْوِ، فَأَجَابَ بِالْإِعْرَابِ، وَلَمْ يُجِبْ عَنِ السُّؤَالِ بِشَيْءٍ؛ وَالَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ خَبَرٌ يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَالٌ، وَمَا زَادَنَا إِلَّا التَّكَلُّفَ فِي جَعْلِهِ حَالًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ هُوَ أَنَّ " شَهِيدَيْنِ " لَمَّا صَحَّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ بِمَعْنَى " شَخْصَيْنِ شَهِيدَيْنِ " قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 282) ثُمَّ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا) عَلَى " الشَّهِيدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ " وَكَانَ عَوْدُهُ عَلَيْهِمَا أَبْلَغَ؛ لِيَكُونَ نَفْيُ الصِّفَةِ عَنْهُمَا كَمَا كَانَ إِثْبَاتُهَا لَهُمَا، فَيَكُونُ الشَّرْطُ مُوجَبًا وَنَفْيًا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (مِنْ رِجَالِكُمْ) كَالشَّرْطِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: " إِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ " وَفِي النَّظْمِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الِارْتِبَاطِ وَجَرْيِ الْكَلَامِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ. وَأَمَّا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ وُضِعَ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ اخْتِصَارًا لِبَيَانِ الْمَعْنَى؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ اثْنَيْنِ " ثُمَّ وُضِعَ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ مَوْضِعَ الْوَارِثِ الَّذِي هُوَ جِنْسٌ، لَمَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْهُ " الِاثْنَانِ " وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْوَارِثِ- وَإِنْ كَانَ جَمْعًا- بِاثْنَيْنِ فَفِيهِ تَفَاوُتٌ مَا؛ لِكَوْنِهِ مُفْرَدَ اللَّفْظِ، فَكَانَ الْأَلْيَقُ بِحُسْنِ النَّظْمِ وَضْعُ الْمُضْمَرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ، ثُمَّ يُجْرِي الْخَبَرَ عَلَى مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ- وَهُوَ الْوَارِثُ- فَيَجْرِي الْكَلَامُ فِي طَرِيقِهِ مَعَ الْإِيجَازِ فِي وَضْعِ الْمُضْمَرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ تَفَاوُتِ اللَّفْظِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ لَفْظٍ مُفْرَدٍ بِمُثَنَّى وَنَظِيرُ هَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ اسْمٌ مَوْضِعَ غَيْرِهِ إِيجَازًا، ثُمَّ جَرَى الْكَلَامُ مَجْرَاهُ فِي الْحَدِيثِ عَمَّنْ هُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (الْأَعْرَافِ: 4) فَعَادَ هَذَا الضَّمِيرُ وَالْخَبَرُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ أُقِيمَتِ الْقَرْيَةُ فِي الذِّكْرِ مَقَامَهُمْ، فَجَرَى الْكَلَامُ مَجْرَاهُ، مَعَ حُصُولِ الْإِيجَازِ فِي وَضْعِ الْقَرْيَةِ مَوْضِعَ أَهْلِهَا، وَفُهِمَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ كُلْفَةٍ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ فِي الْبَيَانِ يَقْصُرُ عَنْ مَدَاهَا بَيَانُ الْإِنْسَانِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (الْحَاقَّةِ: 13) قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: لَمَّا فُهِمَ مِنْهَا التَّأْكِيدُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الذَّاتِ، وَلَيْسَ فِي (وَاحِدَةٌ) دَلَالَةً عَلَى نَفْخٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ تَأْكِيدًا، انْتَهَى. وَفِي فَائِدَةِ (وَاحِدَةٌ) خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: التَّوْكِيدُ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: " أَمْسِ الدَّابِرُ ". الثَّانِي: وَصْفُهَا لِيَصِحَّ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِلَّا إِذَا وُصِفَ. وَرُدَّ بِأَنَّ تَحْدِيدَهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مُصَحِّحٌ؛ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْفَاعِلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَحْدَةَ لَمْ تُعْلَمْ مِنْ " نَفْخَةٍ " إِلَّا ضِمْنًا وَتَبَعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَكَ: " نَفْخَةٌ " يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ: النَّفْخُ وَالْوَحْدَةُ، فَلَيْسَتْ " نَفْخَةٌ " مَوْضُوعَةً لِلْوَحْدَةِ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّ وَصْفُهَا. الرَّابِعُ: وَصْفُهُ النَّفْخَةَ بِوَاحِدَةٍ؛ لِأَجْلِ تَوَهُّمِ الْكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (إِبْرَاهِيمَ: 34) فَالنِّعْمَةُ فِي اللَّفْظِ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ عَلَّقَ عَدَمَ الْإِحْصَاءِ بِعَدِّهَا. الْخَامِسُ: أَتَى بِالْوَحْدَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ لَا اخْتِلَافَ فِي حَقِيقَتِهَا؛ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِالنَّوْعِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} (الْقَمَرِ: 50) أَيْ: لَا اخْتِلَافَ فِي حَقِيقَتِهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الْبَقَرَةِ: 163) قِيلَ: مَا فَائِدَةُ (إِلَهٍ)؟ وَهَلَّا جَاءَ " وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ " وَهُوَ أَوْجَزُ؟ قِيلَ: لَوْ قَالَ: " وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ " لَكَانَ ظَاهِرُهُ إِخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا فِي إِلَهِيَّتِهِ، يَعْنِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُنْ إِخْبَارًا عَنْ تَوَحُّدِهِ فِي ذَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كُرِّرَ ذِكْرُ الْإِلَهِ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا سِيقَتْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِيَّتِهِ فِي ذَاتِهِ، وَنَفْيِ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى: إِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَالْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ؛ أَيِ: الْأُصُولُ، كَمَا أَنَّ زَيْدًا وَاحِدٌ وَأَعْضَاؤُهُ مُتَعَدِّدَةٌ، فَلَمَّا قَالَ: إِلَهٌ وَاحِدٌ دَلَّ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: وَاحِدٌ يَحْتَمِلُ الْأَحَدِيَّةَ فِي الذَّاتِ وَالْأَحَدِيَّةَ فِي الصِّفَاتِ، سَوَاءً ذُكِرَ الْإِلَهُ أَوْ لَا، فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ. وَمِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (النَّجْمِ: 20) وَمَعْلُومٌ بِقَوْلِهِ: الثَّالِثَةَ أَنَّهَا الْأُخْرَى وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ، وَمِثْلُهُ عَلَى رَأْيِ الْفَارِسِيِّ {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى}. (النَّجْمِ: 50) وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النَّحْلِ: 26) قِيلَ: بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ: خَرَّ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، كَمَا تَقُولُ: اشْتَكَى فُلَانٌ عَنْ دَوَاءٍ شَرِبَهُ؛ أَيْ: مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ، أَوْ بِمَعْنَى اللَّامِ؛ أَيْ: فَخَرَّ لَهُمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَعْمِلُ لَفْظَةَ " عَلَى " فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا فِي الشَّرِّ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ؛ تَقُولُ: خَرِبَتْ عَلَى فُلَانٍ ضَيْعَتُهُ، كَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (الْبَقَرَةِ: 102) {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (آلِ عِمْرَانَ: 78) {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الْأَعْرَافِ: 28) وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُقَالُ: سَقَطَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ كَذَا، إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَوْقِهِ بَلْ تَحْتَهُ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ فَوْقِهِمْ} (النَّحْلِ: 26) عَلَى الْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بِالْفَوْقِيَّةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} (النَّحْلِ: 26) كَمَا تَقُولُ: أَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى رَأْسِهِ.
السَّادِسَةُ: [إِذَا اجْتَمَعَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصَّرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلِ] إِذَا اجْتَمَعَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصَّرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلِ قُدِّمَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ، ثُمَّ الظَّرْفُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ عَدِيلُهُ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 45- 46) فَقَوْلُهُ: (وَجِيهًا) حَالٌ، وَكَذَلِكَ (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وَقَوْلُهُ: (يُكَلِّمُ) وَقَوْلُهُ: (مِنَ الصَّالِحِينَ) فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ انْتَصَبَتْ عَنْ قَوْلِهِ: (كَلِمَةٍ) وَالْحَالُ الْأُولَى جِيءَ بِهَا عَلَى الْأَصْلِ اسْمًا صَرِيحًا، وَالثَّانِيَةُ فِي تَأْوِيلِهِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، وَجِيءَ بِهَا هَكَذَا لِوُقُوعِهَا فَاصِلَةً فِي الْكَلَامِ، وَلَوْ جِيءَ بِهَا اسْمًا صَرِيحًا لَنَاسَبَتِ الْفَوَاصِلَ، وَالثَّالِثَةُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَالرَّابِعَةُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} (غَافِرٍ: 28) {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} (الْمَائِدَةِ: 23) وَلَمَّا كَانَ الظَّرْفُ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمُفْرَدِ وَشَبَهٌ مِنَ الْجُمْلَةِ جُعِلَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَوْجَبَ ابْنُ عُصْفُورٍ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (الْمَائِدَةِ: 54) وَلَا يُقَالُ: إِنَّ (أَذِلَّةٍ) بَدَلٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ، وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَوَامِدِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (الْأَنْعَامِ: 155) فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " مُبَارَكٌ " خَبَرًا لِمَحْذُوفٍ، فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ
السَّابِعَةُ: [اجْتِمَاعُ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ] فِي اجْتِمَاعِ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ مَا الَّذِي يُقَدَّمُ مِنْهُمَا (فِي الْقُرْآنِ) أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْمَتْبُوعَ فَيَقُولُونَ: " أَبْيَضُ نَاصِعٌ "، وَ " أَصْفَرُ فَاقِعٌ "، وَ " أَحْمَرُ قَانٍ " وَ " أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} (الْبَقَرَةِ: 69) وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّبَعَ فِيهِ مَعْنَى زِيَادَةِ الْوَصْفِ، فَلَوْ قُدِّمَ لَكَانَ ذِكْرُ الْمَوْصُوفِ بَعْدَهُ عَيْبًا؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُ. وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (فَاطِرٍ: 27) وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي صَدِئَتْ فِيهَا الْأَذْهَانُ الصَّقِيلَةُ، وَعَادَتْ بِهَا أَسِنَّةُ الْأَلْسِنَةِ مَفْلُولَةً، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَجَائِبِ أَنَّ شَيْخًا أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُدَرِّسٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ السَّوَادَ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْغِرْبَانِ مَا فِيهِ بَيَاضٌ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ! فَلَمْ يَفْهَمْ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَرَابِيبَ هُوَ الْغُرَابُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِتَقْدِيمِ الْغَرَابِيبِ هُوَ تَنَاسُبُ الْكَلِمِ وَجَرَيَانُهَا عَلَى نَمَطٍ مُتَسَاوِي التَّرْكِيبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ الْبِيضُ وَالْحُمْرُ دُونَ إِتْبَاعٍ كَانَ، كَانَ الْأَلْيَقُ بِحُسْنِ النَّسَقِ وَتَرْتِيبِ النِّظَامِ أَنْ يَكُونَ السُّودُ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي هَذَا " السُّودِ " هُنَا زِيَادَةُ الْوَصْفِ، كَانَ الْأَلْيَقُ فِي الْمَعْنَى أَنْ يُتْبَعَ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْغَرَابِيبُ، فَيُقَابِلُ حَظَّ اللَّفْظِ وَحَظَّ الْمَعْنَى، فَوَفَّى الْخِطَابَ وَكَمُلَ الْغَرَضَانِ جَمِيعًا، وَلَمْ يَطْرَحْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَقَعُ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ الطَّرْحِ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ " الْغَرَابِيبِ " عَلَى " السُّودِ " فَوَقَعَ فِي لَفْظِ الْغَرَابِيبِ حَظُّ الْمَعْنَى فِي زِيَادَةِ الْوَصْفِ، وَفِي ذِكْرِ السُّودِ مُفْرَدًا مِنَ الْإِتْبَاعِ حَظُّ اللَّفْظِ؛ إِذْ جَاءَ مُجَرَّدًا عَنْ صُورَةِ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ، فَاتَّسَقَتِ الْأَلْفَاظُ كَمَا يَنْبَغِي، وَتَمَّ الْمَعْنَى كَمَا يَجِبُ، وَلَمْ يُخِلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى " الْغَرَابِيبِ " وَإِنْ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِمَعْنَى " السُّودِ " لِئَلَّا تَتَنَافَرَ الْأَلْفَاظُ، فَإِنَّ ضَمَّ الْغِرْبِيبِ إِلَى الْبَيْضِ وَالْحُمْرِ وَلَزَّهَا فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ: كَابْنِ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرْنٍ *** وَذَلِكَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِتَلَاؤُمِ الْأَلْفَاظِ وَتَشَاكُلِهَا، وَبِذِكْرِ السُّودِ وَقَعَ الِالْتِئَامُ، وَاتَّسَقَ نَسَقُ النِّظَامِ، وَجَاءَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي دَرَجَةِ التَّمَامِ، وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي تَكِلُّ دُونَهَا الْعُقُولُ، وَتَعْيَا بِهَا الْأَلْسُنُ لَا تَدْرِي مَا تَقُولُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ أَبَا الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيَّ أَشَارَ إِلَى مَعْنًى غَرِيبٍ، فَنَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الدَّيْنَوَرِيِّ أَنَّ " الْغِرْبِيبَ " اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْعِنَبِ وَلَيْسَ بِنَعْتٍ، قَالَ: وَمِنْ هَذَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَسُودٌ عِنْدِي بَدَلٌ لَا نَعْتٌ، وَإِنْ كَانَ " الْغِرْبِيبُ " إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُهُ وَلَمْ يُقَيَّدْ بِذِكْرِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ قَلَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعِنَبُ الَّذِي هُوَ اسْمُهُ خَاصَّةً، فَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التَّقْيِيدُ.
الثَّامِنَةُ: [تَكْرَارُ النُّعُوتِ لِوَاحِدٍ] إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ لِوَاحِدٍ، فِي الْقُرْآنِ فَتَارَةً يُتْرَكُ الْعَطْفُ، كَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (الْقَلَمِ: 10- 11) وَتَارَةً تَشْتَرِكُ بِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الْأَعْلَى: 1- 3) وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ مَعَانِيهَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: دُخُولُ الْعَاطِفِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ، انْتَهَى. وَالْعَطْفُ أَحْسَنُ إِنْ تَبَاعَدَ مَعْنَى الصِّفَاتِ؛ نَحْوَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (الْحَدِيدِ: 3) وَإِلَّا فَلَا.
التَّاسِعَةُ: [فَصْلُ الْجُمَلِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِهَا نَمَطًا وَاحِدًا] فَصْلُ الْجُمَلِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فِي الْقُرْآنِ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِهَا نَمَطًا وَاحِدًا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتْ صِفَاتٌ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ فِي إِعْرَابِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ، فَإِذَا خُولِفَ فِي الْإِعْرَابِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ تَتَنَوَّعُ وَتَتَفَنَّنُ، وَعِنْدَ الْإِيجَازِ تَكُونُ نَوْعًا وَاحِدًا. وَمِثْلُهُ فِي الْمَدْحِ قَوْلُهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النِّسَاءِ: 162) فَانْتَصَبَ (الْمُقِيمِينَ) عَلَى الْقَطْعِ وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ (الْمُؤْمِنُونَ) وَقِيلَ: بَلِ انْتَصَبَ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (النِّسَاءِ: 162) وَهُوَ مَجْرُورٌ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: " يُؤْمِنُونَ بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَبِالْمُقِيمِينَ " أَيْ: بِإِجَابَةِ الْمُقِيمِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِلتَّفْخِيمِ، فَالْأَلْيَقُ بِهِ إِضْمَارُ الْفِعْلِ حَتَّى يَكُونَ الْكَلَامُ جُمْلَةً لَا مُفْرَدًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} (الْبَقَرَةِ: 177) نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وَجَوَّزَ السِّيرَافِيُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} (الْبَقَرَةِ: 177) إِلَى أَنْ قَالَ وَالصَّابِرِينَ وَرَدَّهُ الصَّفَّارُ بِأَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَوْصُولِ قَبْلَ تَمَامِ الصِّلَةِ، وَإِنْ كَانَ وَالصَّابِرِينَ مَعْطُوفًا عَلَى وَالسَّائِلِينَ فَهُوَ مِنْ صِلَةِ " مَنْ " فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ. وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مِنْ صِلَةِ (مَنْ) وَتَكُونُ الصِّلَةُ كَمُلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتَى الزَّكَاةَ) (الْبَقَرَةِ: 177) ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقَطْعِ، وَمِثَالُهُ فِي الذَّمِّ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (الْمَسَدِ: 4) بِنَصْبِ حَمَّالَةَ تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: إِنَّمَا يَحْسُنُ الْقَطْعُ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ مَعْلُومًا أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَجْهُولٍ. وَقَوْلُنَا: " أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ " لَا بُدَّ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الْفُرْقَانِ: 2): رُفِعَ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنَ (الَّذِي نَزَّلَ) (الْفُرْقَانِ: 1) أَوْ رُفِعَ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ نُصِبَ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْإِبْدَالُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى: نَزَّلَ {الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (الْفُرْقَانِ: 1) لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلْعَالَمِينَ، فَأُبْدِلَ بِقَوْلِهِ: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بَيَانًا وَتَفْسِيرًا وَتَبَيَّنَ لَكَ الْمَدْحُ. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْلُومِ، وَهَاهُنَا لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ أُجْرِيَ مَجْرَى الْمَعْلُومِ، وَجُعِلَتْ صِلَةً، نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورُ. وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصِّفَةُ لِلثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ ثَالِثًا: وَهُوَ تَقَدُّمُ الْإِتْبَاعِ، حَكَاهُ ابْنُ بَابْشَاذْ. وَزَيَّفَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ يَفْتَقِرُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ، فَحِينَئِذٍ يَتَقَدَّمُ الْإِتْبَاعُ لِيَسْتَحْكِمَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ. قَالَ: وَالْأَصْلُ- فِيمَا الصِّفَةُ فِيهِ مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ وَالْمَوْصُوفُ مَعْلُومٌ- قَطْعُ الضَّمِيرِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَلَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى دَعْوَى أَفْصَحِيَّةِ الْقَطْعِ عِنْدَ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ عَلَى الْإِتْبَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَضَعَّفُوا قِرَاءَةَ النَّصْبِ عَلَى الْقَطْعِ مَعَ حُصُولِ شَرْطَيِ الْقَطْعِ. وَأَجَابَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الْقَطْعِ مُطَّرِدٌ مَا لَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ خَاصَّةً بِمَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ، لَا يَلِيقُ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا سِوَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ قَلِيلٌ جِدًّا، فَكَذَلِكَ لَمْ يُفْصِحْ سِيبَوَيْهِ بِاشْتِرَاطِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ مِمَّنْ لَا يُشَارِكُ فِيهَا الْمَوْصُوفُ غَيْرَهُ، وَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ فِيهَا الْإِتْبَاعُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعُ، وَعَلَيْهِ وَرَدَ السَّمَاعُ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} (غَافِرٍ 1- 3) لَمَّا كَانَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِـ (غَافِرِ الذَّنْبِ) وَمَا بَعْدَهُ لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِتْبَاعُ، وَالْإِتْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ وَيَلْزَمُ الْإِتْبَاعُ فِي الْكُلِّ. وَهَذَا مَعَ تَكَرُّرِ الصِّفَاتِ، وَذَلِكَ مِنْ مُسَوِّغَاتِ الْقَطْعِ عَلَى صِفَةٍ مَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِفَةٍ. وَأَمَّا الْإِتْبَاعُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ مِنْ صِفَتِهِ تَعَالَى فَكَثِيرٌ، فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ وَلَهُ وَجْهٌ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَارِدِ فِي سُورَةِ وَالنَّجْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النَّجْمِ: 43- 44) ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} (النَّجْمِ: 48، 49) فَوَرَدَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ الْفَصْلُ بِالضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا؛ لِيَتَحَدَّدَ بِمَفْهُومِهِ نَفْيُ الِاتِّصَافِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ أَنْ لَوْ قِيلَ: " وَأَنَّهُ هُوَ لَا غَيْرُهُ "، وَلَمْ يَرِدْ هَذَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (النَّجْمِ: 45) لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَاطَاهُ أَحَدٌ، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا ادِّعَاءً، بِخِلَافِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُمْرُوذَ. قُلْتُ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) الْآيَةَ (التَّوْبَةِ: 112)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} (التَّحْرِيمِ: 5) الْآيَاتِ، وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِأَوْصَافِ الذَّمِّ قَوْلُهُ: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} الْآيَةَ (الْقَلَمِ:- 11)، قَدْ جَرَتْ كُلُّهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْإِتْبَاعِ، وَلَمْ يَجِئْ فِيهَا الْقَطْعُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: (عُتُلٌ) (الْقَلَمِ: 13) بِالرَّفْعِ عَلَى الذَّمِّ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْوِيَةٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. الثَّانِي: قَدْ يَلْتَبِسُ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَدْحِ بِالِاخْتِصَاصِ، وَقَدْ فَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَيَّنَ؛ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَصِبُ لَفْظًا يَتَضَمَّنُ نَفْسُهُ مَدْحًا؛ نَحْوَ: " هَذَا زِيدٌ عَاقِلُ قَوْمِهِ " وَفِي الِاخْتِصَاصِ لَا يَقْتَضِي اللَّفْظُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (هُودٍ: 73) فِيمَنْ نَصَبَ (أَهْلَ)
الْعَاشِرَةُ: [وَصْفُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ] الْعَاشِرَةُ: يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْمُفْرَدِ، فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} (طه: 4) فَوَصَفَ الْجَمْعَ بِالْمُفْرَدِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الْأَعْرَافِ: 180) فَوَصَفَ " الْأَسْمَاءَ "- وَهِيَ جَمْعُ اسْمٍ- بِالْحُسْنَى، وَهُوَ مُفْرَدٌ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} (طه: 51) فَإِنَّ الْأُولَى تَأْنِيثُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ صِفَةٌ لِمُفْرَدٍ. وَإِنَّمَا حَسُنَ وَصْفُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرِدِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُؤَنَّثَ يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ؛ بِخِلَافِ لَفْظِ الْمُذَكَّرِ، يُرَدُّ إِلَى لَفْظِ جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} (الْفُرْقَانِ: 18) وَالْبُورُ الْفَاسِدُ، فَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: " هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، إِلَّا أَنَّهُ تُرِكَ جَمْعُهُ فِي اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ ". وَقَدْ يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ، وَلَا يُوصَفُ مُفْرَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمُفْرَدِ وَمِنْهُ: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} (الْقَصَصِ: 15) فَثَنَّى الضَّمِيرَ، وَلَا يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ " يَقْتَتِلُ "، وَمِنْهُ: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) وَلَا يُقَالُ: " وَأُخْرَى مُتَشَابِهَةٌ ".
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: [قَدْ تَدْخُلُ الْوَاوُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً تَأْكِيدًا] الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَدْ تَدْخُلُ الْوَاوُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً تَأْكِيدًا، فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} (الْحِجْرِ: 4) قَالَ: " الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَالْقِيَاسُ عَدَمُ دُخُولِ الْوَاوِ فِيهَا؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 208) وَإِنَّمَا تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ " وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمَا، وَالْقِيَاسُ مَعَ الزَّمَخْشَرِيِّ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ كَالْحَالِ فِي الْمَعْنَى. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِالْوَاوِ فِي الصِّفَاتِ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (الْكَهْفِ: 22) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 8) وَتَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَالْعَالِمُ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: [الصِّفَةُ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ] الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الصِّفَةُ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا لِلْبَيَانِ وَالتَّخْصِيصِ، أَوِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَهَذَا فِي مَوْضِعِ الْإِطَالَةِ لَا الِاخْتِصَارِ، فَصَارَ مِنْ بَابِ نَقْصِ الْغَرَضِ. وَقَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: " عِنْدِي أَنَّ الْبَيَانَ حَصَلَ بِالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مَعًا، فَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ يُنْقِصُ الْغَرَضَ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَ لَبْسًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: " مَرَرْتُ بِطَوِيلٍ " يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ قَوْسٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، إِلَّا إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ ظُهُورًا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ). (الصَّافَّاتِ: 48) قَالَ السَّخَاوِيُّ: " وَلَا فَرْقَ فِي صِفَةِ النَّكِرَةِ بَيْنَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَهَا أَوْ لَا ". قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: " وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ "
وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ، وَهُوَ يُفِيدُ الْبَيَانَ وَالتَّأْكِيدَ، أَمَّا الْبَيَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: " رَأَيْتُ زَيْدًا أَخَاكَ " بَيَّنْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِزَيْدٍ الْأَخَ لَا غَيْرَ، وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فَلِأَنَّهُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: " ضَرَبْتُ زَيْدًا " جَازَ أَنْ تَكُونَ ضَرَبْتَ رَأْسَهُ أَوْ يَدَهُ أَوْ جَمِيعَ بَدَنِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: " يَدَهُ " فَقَدْ رَفَعْتَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ، فَالْبَدَلُ جَارٍ مَجْرَى التَّأْكِيدِ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُطَابَقَةِ كَمَا فِي بَدَلِ الْكُلِّ، أَوِ التَّضَمُّنِ كَمَا فِي بَدَلِ الْبَعْضِ، أَوِ الِالْتِزَامِ كَمَا فِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، فَإِذَا قُلْتَ: " ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ " فَكَأَنَّكَ قَدْ ذَكَرْتَ الرَّأْسَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالتَّضَمُّنِ وَأُخْرَى بِالْمُطَابَقَةِ، وَإِذَا قُلْتَ: " شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ بَعْضَهُ "، فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِكَ: " شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ " أَنَّكَ لَمْ تَشْرَبْهُ كُلَّهُ، فَجِئْتَ بِالْبَعْضِ تَأْكِيدًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَلَكِنَّهُ ثَنَّى الِاسْمَ تَأْكِيدًا، وَجَرَى مَجْرَى الصِّفَةِ فِي الْإِيضَاحِ؛ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: " رَأَيْتُ أَبَا عَمْرٍو زَيْدًا " وَ " رَأَيْتُ غُلَامَكَ زَيْدًا " وَ " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ صَالِحٍ زَيْدٍ " فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرِفُهُ بِأَنَّهُ غُلَامُكَ، أَوْ بِأَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ، وَعَلَى الْعَكْسِ، فَلَمَّا ذَكَرْتَهُمَا أُثْبِتَ بِاجْتِمَاعِهِمَا الْمَقْصُودُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَإِنَّمَا يُذْكَرُ الْأَوَّلُ لِتَجُوزَ التَّوْطِئَةُ، وَلِيُفَادَ بِمَجْمُوعِهِمَا فَضْلُ تَأْكِيدٍ وَتَبْيِينٍ لَا يَكُونُ فِي الْإِفْرَادِ. وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: لَيْسَ كُلُّ بَدَلٍ يُقْصَدُ بِهِ رَفَعُ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، بَلْ مِنَ الْبَدَلِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّأْكِيدُ، وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ غَنِيًّا عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} (الشُّورَى: 52- 53) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ " الصِّرَاطَ " الثَّانِي لَمْ يَشُكَّ أَحَدٌ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْبَدَلِ مَا الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ، وَلِهَذَا جَوَّزُوا بَدَلَ الْمُضْمَرِ مِنَ الْمُضْمَرِ، كَلَقَيْتُهُ إِيَّاهُ. انْتَهَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي تَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، وَكَأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ مِنْ جُمْلَتَيْنِ؛ بِدَلِيلِ تَكَرُّرِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (الْأَعْرَافِ: 75) وَبِدَلِيلِ بَدَلِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُظْهَرِ مِنَ الْمُضْمَرِ، وَهَذَا مِمَّا يَمْتَنِعُ فِي الصِّفَةِ، فَكَمَا أُعِيدَتِ اللَّامُ الْجَارَّةُ فِي الِاسْمِ، فَكَذَلِكَ تَكْرَارُ الْعَامِلِ الرَّافِعِ أَوِ النَّاصِبِ فِي تَقْدِيرِ التَّكْرَارِ، وَهُوَ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَبْيِينٌ لِلْأَوَّلِ كَالصِّفَةِ. وَقِيلَ لِأَبِي عَلِيٍّ: كَيْفَ يَكُونُ الْبَدَلُ إِيضَاحًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جُمْلَتِهِ؟ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرِ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَاتَّصَلَ الْبَدَلُ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ جَازَ أَنْ يُوَضِّحَهُ. وَمِنْ فَوَائِدِ الْبَدَلِ التَّبْيِينُ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ، فَقَوْلُكَ: " هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَفْضَلِهِمْ؟ فُلَانٌ " أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: " فُلَانٌ الْأَكْرَمُ وَالْأَفْضَلُ " بِذِكْرِهِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْوَاحِدِيُّ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ نَحْوَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آلِ عِمْرَانَ: 97) يُسَمَّى هَذَا بَدَلَ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْبَدَلِ إِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْبَدَلَيْنِ- أَعْنِي بَدَلَ الْبَعْضِ وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ- بَيَانًا وَتَخْصِيصًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَفَائِدَةُ الْبَدَلِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَصِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِالْعُمُومِ، وَالثَّانِيَةُ بِالْخُصُوصِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ} (الْفَاتِحَةِ: 6- 7). {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 47- 48) وَقَوْلُهُ: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} (الْعَلَقِ: 15- 16) وَفَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأُولَى ذُكِرَتْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى " نَاصِيَةٍ "، وَالثَّانِيَةَ عَلَى عِلَّةِ السَّفْعِ؛ لِيَشْمَلَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ كُلِّ نَاصِيَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا. وَيَجُوزُ بَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ} (الْفَاتِحَةِ: 6- 7). وَبَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} (الْعَلَقِ: 15- 16) قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَلَا يَحْسُنُ بَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى تُوصَفَ كَالْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ مُرْتَبِطٌ بِهِمَا جَمِيعًا. وَالنَّكِرَةُ مِنَ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا} (النَّبَأِ: 31- 34) فَحَدَائِقَ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ مَفَازًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (فَاطِرٍ: 27) فَإِنَّ " سُودٌ " بَدَلٌ مِنْ " غَرَابِيبُ " لِأَنَّ الْأَصْلَ: " سُودٌ غَرَابِيبُ "، فَغَرَابِيبُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِسُودٍ، وَنُزِعَ الضَّمِيرُ مِنْهَا، وَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهَا الَّذِي كَانَ مَوْصُوفًا بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (آلِ عِمْرَانَ: 85) وَقَوْلِهِ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (يُوسُفَ: 20) فَهَذَا بَدَلُ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ مِنْ أُخْرَى مَوْصُوفَةٍ فِيهَا بَيَانُ الْأُولَى. وَمِثْلُ إِبْدَالِ النَّكِرَةِ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ مِثْلِهَا مُجَرَّدَةٍ وَبَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} (الشُّورَى: 52- 53) لِأَنَّ " صِرَاطِ اللَّهِ " مُبَيِّنٌ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَإِنَّ مَجِيءَ الْخَاصِّ وَالْأَخَصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَالْأَعَمِّ كَثِيرٌ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْحَذَّاقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} (ق: 18) إِنَّهُ لَوْ عُكِسَ فَقِيلَ: " مَا يَقُولُ مِنْ لَفْظٍ " لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ أَخَصُّ مِنَ اللَّفْظِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُسْتَعْمَلِ، وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ الْمُهْمَلَ الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ. وَقَدْ يَجِيءُ لِلِاشْتِمَالِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَلِ الْبَعْضِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَعْضِ جَرَّ فِي الِاشْتِمَالِ وَصْفًا، كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (الْكَهْفِ: 63) فَإِنَّ " أَذْكُرَهُ " بِمَعْنَى ذِكْرَهُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي أَنْسَانِيهِ الْعَائِدَةُ إِلَى الْحُوتِ وَتَقْدِيرُهُ: وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ. وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (الْبَقَرَةِ: 217) فَـ (قِتَالٍ) بَدَلٌ مِنَ " الشَّهْرِ " بَدَلَ الِاشْتِمَالِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى غَيْرِهِ، كَمَا كَانَ زَيْدٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعَقْلِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ، فَجَاءَ بِهِ تَأْكِيدًا. وَقَوْلِهِ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ} (الْبُرُوجِ: 4- 5) فَالنَّارُ بَدَلٌ مِنَ " الْأُخْدُودِ " بَدَلَ اشْتِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّارِ وَغَيْرِهَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: " الْمُوقَدَةُ فِيهِ ". وَمِنْ بَدَلِ الْبَعْضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آلِ عِمْرَانَ: 97) فَالْمُسْتَطِيعُونَ بَعْضُ النَّاسِ لَا كُلُّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: بَلْ هَذِهِ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَجَّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُهُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضَهُمْ؛ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 173) فِي أَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ لَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (إِنَّ النَّاسَ) فَعَلَى هَذَا هُوَ عِنْدَهُ مُطَابِقٌ لِعِدَّةِ الْمُسْتَطِيعِينَ فِي كَمِّيَّتِهِمْ، وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَا جَمِيعُهُمْ. وَالصَّحِيحُ مَا صَارَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ بَابَ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّانِي بَيَانٌ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنْ يُذْكَرَ الْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ مُبَيِّنًا وَمُوَضِّحًا. وَلَا بُدَّ فِي إِبْدَالِ الْبَعْضِ مِنْ ضَمِيرٍ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (الْبَقَرَةِ: 251) {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} (الْأَنْفَالِ: 37). وَقَدْ يُحْذَفُ لِدَلِيلٍ كَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ} (آلِ عِمْرَانَ: 97) " مِنْهُمْ " وَهُوَ مُرَادٌ بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 126) فَـ (مَنْ آمَنَ) بَدَلٌ مِنْ (أَهْلِهِ) وَهُمْ بَعْضُهُمْ. وَقَدْ يَأْتِي الْبَدَلُ لِنَقْلِ الْحُكْمِ عَنْ مُبْدَلِهِ، نَحْوَ: " جَاءَ الْقَوْمُ أَكْثَرُهُمْ " وَ " أَعْجَبَنِي زَيْدٌ ثَوْبُهُ " وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَلَا يَصِحُّ " غِلْمَانُهُ ". وَعَدَلَ عَنِ الْبَدَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (الْحُجُرَاتِ: 4) لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ فِي الْحَالِ الثَّانِي وَهُوَ{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} (الْحُجُرَاتِ: 5) فَلَوْ أُبْدِلَ لَأَوْهَمَ، بِخِلَافِ: " إِنَّكَ أَنْ تَقُومَ خَيْرٌ لَكَ " الْبَدَلُ أَرْجَحُ. وَالْبَدَلُ فِي تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ، وَلَكِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكْرِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ. قَدْ يُكَرَّرُ عَامِلُهُ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ، كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} (الْأَنْعَامِ: 99) فَـ (طَلْعِهَا) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ النَّخْلِ وَكَرَّرَ الْعَامِلَ فِيهِ وَهُوَ مِنْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (الْأَعْرَافِ: 75) (لِمَنْ آمَنَ) بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنَ (الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَقَدْ كَرَّرَ اللَّامَ. وَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} (الزُّخْرُفِ: 33) فَقَوْلُهُ: لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ اللَّامَ الْأُولَى لِلْمِلْكِ وَالثَّانِيَةَ لِلِاخْتِصَاصِ، فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ الْبَدَلُ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْحَرْفَيْنِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} (الْمَائِدَةِ: 114) فَـ (لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي " لَنَا " وَقَدْ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ مَقْصُودًا بِهِ التَّفْصِيلُ. وَمِنْهُ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلَّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) (الْجَاثِيَةِ: 28) قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: " جَازَ إِبْدَالُ الثَّانِيَةِ مِنَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ فِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ سَبَبِ الْجُثُوِّ ". قِيلَ: وَلَمْ يَظْهَرْ عَامِلُ الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ؛ إِيذَانًا بِافْتِقَارِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ، فَإِنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ مُفْتَقِرَةٌ، وَلَمْ يَظْهَرِ الْفِعْلُ؛ إِذْ لَوْ أَظْهَرُوهُ لَانْقَطَعَ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لَأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْفِعْلِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إِظْهَارِ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَإِنْ كَانَ رَافِعًا أَوْ نَاصِبًا فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْمُجَوِّزُونَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ} (الشُّعَرَاءِ: 131- 133) فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " أَمَدَّكُمُ " الثَّانِي بَدَلًا مَنْ " أَمَدَّكُمْ " الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ صِلَةَ الَّذِي كَالْأُولَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ شَارِحَةً لِلْأُولَى، كَقَوْلِكَ: " ضَرَبْتُ رَأْسَ زَيْدٍ، قَذَفْتُهُ بِالْحَجَرِ " ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} (يس: 20- 21) أُبْدِلَ قَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} (يس: 21) مِنْ قَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (يس: 20) لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَلَطُّفًا فِي اقْتِضَاءِ اتِّبَاعِهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} (الْفُرْقَانِ: 68- 69) فَـ (يَلْقَ) مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْأَلِفِ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} (الْفُرْقَانِ: 69) فَبَيَّنَ بِهَا " الْأَثَامَ " مَا هُوَ. وَيَنْقَسِمُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى بَدَلِ مُفْرَدٍ مِنْ مُفْرَدٍ، وَجُمْلَةٍ مِنْ جُمْلَةٍ، وَقَدْ سَبَقَا، وَجُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 59) وَقَوْلِهِ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} (فُصِّلَتْ: 43) فَإِنَّ (إِنَّ) وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ بَدَلٌ مِنْ (مَا) وَصِلَتِهَا عَلَى تَقْدِيرِ " مَا يُقَالُ لَكَ أَلَا إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ " وَجَازَ إِسْنَادُ (يُقَالُ) إِلَى مَا عَمِلَتْ فِيهِ، كَمَا جَازَ إِسْنَادُ قِيلَ فِي {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (الْجَاثِيَةِ: 32). وَمِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُفْرَدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 3) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، بَدَلًا مِنَ (النَّجْوَى). وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} (الْفُرْقَانِ: 68- 69) الْآيَةَ. وَالرَّابِعُ: بَدَلُ الْمُفْرَدِ مِنَ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} (يس: 31) فَـ (أَنَّهُمْ) بَدَلٌ؛ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ وَعَدَمَ الرُّجُوعِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ بَدَلًا لَكَانَ مَعَهُ الِاسْتِفْهَامُ. قِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مَعْنَوِيٌّ. تنبيه: [تَكْرَّرُ الْبَدَلِ] وَقَدْ يُكَرَّرُ الْبَدَلُ كَقَوْلِهِ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} (التَّوْبَةِ: 40) فَقَوْلُهُ: " إِذْ هُمَا " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (التَّوْبَةِ: 40) وَقَوْلُهُ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} (التَّوْبَةِ: 40) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (التَّوْبَةِ: 40). تنبيه: [إِعْرَابُ آزَرَ] أَعْرَبُوا آزَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} (الْأَنْعَامِ: 74) بَدَلًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: " وَالْبَدَلُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْبَيَانِ، وَالْأَبُ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ حَسُنَ الْبَدَلُ؟ ". وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَبَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدِّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (يُوسُفَ: 38) فَقَالَ: " آزَرَ " لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ " آزَرَ " اسْمُ أَبِيهِ، لَكِنْ فِي " الْمُعْرَبِ " لِلْجَوَالِيقِيِّ عَنِ الزَّجَّاجِ: " لَا خِلَافَ أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ " تَارِحُ " وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ، وَقِيلَ: " آزَرُ " ذَمٌّ فِي لُغَتِهِمْ، وَكَأَنَّهُ: " يَا مُخْطِئُ "، وَهُوَ مِنَ الْعَجَمِيِّ الَّذِي وَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْعَرَبِيِّ، نَحْوَ: الْإِزَارُ وَالْإِزْرَةُ، قَالَ تَعَالَى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ}. وَعَلَى هَذَا فَالْوَجْهُ الرَّفْعُ فِي قِرَاءَةِ آزَرَ
وَهُوَ كَالنَّعْتِ فِي الْإِيضَاحِ وَإِزَالَةِ الِاشْتِرَاكِ الْكَائِنِ فِيهِ. وَشَرَطَ صَاحِبِ " الْكَشَّافِ " فِيهِ أَنْ يَكُونَ وُضُوحُهُ زَائِدًا عَلَى وُضُوحِ مَتْبُوعِهِ. وَرُدَّ مَا قَالَهُ بِأَنَّ الشَّرْطَ حُصُول زِيَادَةِ الْوُضُوحِ بِسَبَبِ انْضِمَامِ عَطْفِ الْبَيَانِ مَعَ مَتْبُوعِهِ؛ لَا أَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ أَوْضَحَ وَأَشْهَرَ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَحْصُلَ بِاجْتِمَاعِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ زِيَادَةُ وُضُوحٍ لَا تَحْصُلُ حَالَ انْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي: " خَالِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ زَيْدٌ " مَعَ أَنَّ اللَّقَبَ أَشْهَرُ؛ فَيَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَفَاءٌ بِانْفِرَادِهِ وَيُرْفَعُ بِالِانْضِمَامِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: جُعِلَ " يَا هَذَا ذَا الْجَمَّةِ " عَطْفُ بَيَانٍ، مَعَ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ أَعْرَفُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَى ذِي اللَّامِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْبَيَانِ مَعْرِفَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَقَوْلِكَ: " لَبِسْتُ ثَوْبًا جُبَّةً ". وَقَدْ أَعْرَبَ الْفَارِسِيُّ {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} (النُّورِ: 36) وَكَذَا {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (الْمَائِدَةِ: 89) وَكَذَلِكَ صَاحِبُ " الْمِفْتَاحِ " فِي {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النَّحْلِ: 51). فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ؟ قُلْتُ: عَطْفُ الْبَيَانِ وُضِعَ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِيضَاحِ بِاسْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الْإِيضَاحِ كَالْمَدْحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (الْمَائِدَةِ: 97) فَإِنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَطْفُ بَيَانٍ جِيءَ بِهِ لِلْمَدْحِ لَا لِلْإِيضَاحِ، وَأَمَّا الصِّفَةُ فَوُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى حَاصِلٍ فِي مَتْبُوعِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مُفِيدَةً لِلْإِيضَاحِ لِلْعِلْمِ بِمَتْبُوعِهَا مِنْ غَيْرِهَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} (سَبَأٍ: 46) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} (آلِ عِمْرَانَ: 97). وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (الطَّلَاقِ: 6) أَنَّ (مِنْ وُجْدِكُمْ) عَطْفُ بَيَانٍ. وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُعَادُ فِي الْبَدَلِ لَا فِي عَطْفِ الْبَيَانِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَدَلِ؟ قُلْتُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: " مَا عَلِمْتُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ابْنُ كَيْسَانَ؛ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَدَلَ يُقَرِّرُ الثَّانِي فِي مَوْضِعِ الْأَوَّلِ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَذْكُرِ الْأَوَّلَ، وَعَطْفُ الْبَيَانِ أَنْ تُقَدِّرَ أَنَّكَ إِنْ ذَكَرْتَ الِاسْمَ الْأَوَّلَ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالثَّانِي، وَإِنْ ذَكَرْتَ الثَّانِي لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالْأَوَّلِ، فَجِئْتَ بِالثَّانِي مُبَيِّنًا لِلْأَوَّلِ قَائِمًا لَهُ مَقَامَ النَّعْتِ وَالتَّوْكِيدِ. قَالَ: وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِي النِّدَاءِ تَقُولُ: " يَا أَخَانَا زَيْدٌ أَقْبِلْ " عَلَى الْبَدَلِ، كَأَنَّكَ رَفَعْتَ الْأَوَّلَ وَقُلْتَ: " يَا زَيْدُ أَقْبِلْ " فَإِنْ أَرَدْتَ عَطْفَ الْبَيَانِ قُلْتَ: " يَا أَخَانَا زَيْدٌ أَقْبِلْ ".
|